فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أخرج ابن إسحق والبيهقي في الدلائل عن ابن شهاب وعاصم بن عمر بن قتادة ومحمد بن يحيى بن حبان والحصين بن عبد الرحمن بن سعد بن معاذ قالوا: كان يوم أحد يوم بلاء وتمحيص، اختبر الله به المؤمنين، ومحق به الكافرين ممن كان يظهر الإسلام بلسانه وهو مستخفٍ بالكفر، ويوم أكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة من أهل ولايته، فكان مما نزل من القرآن في يوم أحد ستون آية من آل عمران فيها صفة ما كان في يومه ذلك، ومعاتبة من عاتب منهم. يقول الله لنبيه {وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم}.
وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن شهاب قال قاتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر في رمضان سنة اثنتين، ثم قاتل يوم أحد في شوال سنة ثلاث، ثم قاتل يوم الخندق وهو يوم الأحزاب وبني قريظة في شوّال سنة أربع.
وأخرج عبد الرزاق والبيهقي في الدلائل عن عمروة قال: كانت وقعة أحد في شوّال على رأس سنة من وقعة بدر، ولفظ عبد الرزاق: على رأس ستة أشهر من وقعة بني النضير، ورئيس المشركين يؤمئذ أبو سفيان بن حرب.
وأخرج البيهقي عن قتادة قال: كانت وقعة أحد في شوّال يوم السبت لإحدى عشرة ليلة مضت من شوّال، وكان أصحابه يومئذ سبعمائة والمشركون الفين أو ما شاء الله من ذلك.
وأخرج أبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم عن المسور بن مخرمة قال: قلت لعبد الرحمن بن عوف يا خال أخبرني عن قصتكم يوم أحد؟ قال: اقرأ بعد العشرين ومائة من آل عمران تجد قصتنا {وإذ غدوت من أهلك تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال} إلى قوله: {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا} [آل عمران: 122] قال: هم الذين طلبوا الأمان من المشركين إلى قوله: {ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه} [آل عمرن: 143] قال: هو تمني المؤمنين لقاء العدو إلى {أَفَإنْ مات أو قتل انقلبتم} [آل عمران: 144] قال: هو صياح الشيطان يوم أحد: قتل محمد إلى قوله: {أمنة نعاسًا} [آل عمران عمران: 154] قال: ألقي عليهم النوم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس {وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال} قال: يوم أحد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {تبوّئ المؤمنين} قال: توطئ.
وأخرج الطستي في مسائله عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله: {تبوّئ المؤمنين} قال: توطن المؤمنين لتسكن قلوبهم قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت قول الأعشى الشاعر:
وما بوّأ الرحمن بيتك منزلًا ** بأجياد غربي الفنا والمحرم

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وإذ غدوت من أهلك تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال} قال: مشى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ على رجليه يبوّئ المؤمنين.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {وإذ غدوت من أهلك} قال يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم يبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال يوم الأحزاب.
وأخرج إسحق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن شهاب ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم. كل حدث بعض الحديث عن يوم قالوا: لما أصيبت قريش أو من ناله منهم يوم بدر من كفار قريش، ورجع قلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بعيره. مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم واخوانهم ببدر، فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا: يا معشر قريش إن محمدًا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرًا بمن أصاب، ففعلوا فأجمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجت بجدتها وجديدها، وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة ولئلا يقروا. وخرج أبو سفيان وهو قائد الناس، فأقبلوا حتى نزلوا بعينين جبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مما يلي المدينة، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وأنهم قد نزلوا حيث نزلوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني رأيت بقرًا تنحر، ورأيت في ذباب سيفي ثلمًا، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها».
ونزلت قريش منزلها أحدًا يوم الأربعاء، فأقاموا ذلك اليوم، ويوم الخميس، ويوم الجمعة، وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى الجمعة فأصبح بالشعب من أحد، فالتقوا يوم السبت للنصف من شوّال سنة ثلاث، وكان رأي عبد الله بن أبي مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى رأيه في ذلك؛ أن لا يخرج إليهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الخروج من المدينة فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد وغيرهم ممن كان فاته يوم بدر وحضوره: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنَّا جنُنَّا عنهم وضعفنا فقال عبد الله بن أبي: يا رسول الله أقم بالمدينة فلا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدوّ لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منهم، فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر، وإن دخلوا قاتلهم النساء والصبيان والرجال بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا خائبين كما جاؤوا.
فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلبس لامته وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة ثم خرج عليهم. وقد ندم الناس وقالوا: استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك فإن شئت فاقعد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل».
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف رجل من أصحابه، حتى إذا كانوا بالشوط بين المدينة وأحد تحوّل عنه عبدالله بن أبي بثلث الناس، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سلك في حرة بني حارثة، فذب فرس بذنبه فأصاب ذباب سيفه فاستلَّه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يحب الفأل ولا يعتاف لصاحب السيف: «شمَّ سيفك فإني أرى السيوف ستستل اليوم».
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالشعب من أحد من عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وتعبَّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة رجل، وأمَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة عبد الله بن جبير والرماة خمسون رجلًا فقال: «انضح عنا الجبل بالنبل لا يأتونا من خلفنا إن كان علينا أو لنا فأنت مكانك لنؤتين من قبلك وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين».
وأخرج ابن جرير عن السدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم أحد «أشيروا عليّ ما أصنع؟» فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم اخرج إلى هذه الأكلب فقالت الأنصار: يا رسول الله ما غلبنا عدوّ لنا أتانا في ديارنا فكيف وأنت فينا. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بن سلول ولم يدعه قط قبلها فاستشاره فقال: يا رسول الله اخرج بنا إلى هذه الأكلب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة فيقاتلوا في الأزقة، فأتى النعمان بن مالك الأنصاري فقال: يا رسول الله لا تحرمني الجنة فقال له: «بم؟» قال: بأني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، واني لا أفر من الزحف قال: «صدقت». فقتل يؤمئذ.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بدرعه فلبسها، فلما رأوه وقد لبس السلاح ندموا وقالوا: بئسما صنعنا نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه، فقاموا واعتذروا إليه وقالوا: اصنع ما رأيت فقال: «رأيت القتال» وقال رسول صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي لنبي أن يلبس لامته فيضعها حتى يقاتل».
وأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد في ألف رجل، وقد وعدهم الفتح أن يصبروا. فرجع عبد الله بن أبي في ثلاثمائة، فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم فأعيوه وقالوا له: ما نعلم قتالًا، ولئن أطعتنا لترجعن معنا وقال: {وإذ همت طائفتان منكم أن تفشلا} وهم بنو سلمة، وبنو حارثة، هموا بالرجوع حين رجع عبد الله بن أبي، فعصمهم الله. وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة {وإذ تبوئ المؤمنين} قال: ذاك يوم أحد، غدا نبي الله من أهله إلى أحد {تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال} وأحد بناحية المدينة. اهـ.
{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَالله وَلِيُّهُمَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)}.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن جابر بن عبدالله قال: فينا نزلت. في بني حارثة، وبني سلمة {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا} وما يسرني أنها لم تنزل لقول الله: {والله وليهما}.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد {إذ همت طائفتان} قال: بنو حارثة كانوا نحو أحد، وبنو سلمة نحو سلع.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة {إذ همَّت طائفتان} قال: ذلك يوم أحد {والطائفتان} بنو سلمة، وبنو حارثة، حيان من الأنصار هموا بأمر فعصمهم الله من ذلك، وقد ذكر لنا أنه لما أنزلت هذه الآية قالوا: ما يسرنا أنَّا لم نهم بالذي هممنا به وقد أخبرنا الله أنه ولينا.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس {إذ همَّت طائفتان} قال: هم بنو حارثة، وبنو سلمة.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال: نزلت في بني سلمة من الخزرج، وبني حارثة من الأوس {إذ همت طائفتان} الآية.
وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج قال ابن عباس: الفشل الجبن والله أعلم. اهـ.

.تفسير الآية رقم (123):

قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان ظاهر الحال فيما أصاب الكفار من المسلمين في هذه الغزوة ربما كان سببًا في شك من لم يحقق بواطن الأمور ولا له أهلية النفوذ في الدقائق من عجائب المقدور في قوله تعالى: {إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا} [آل عمران: 10] {قل للذين كفروا ستغلبون} [آل عمران: 12] ذكرهم الله تعالى نصره لهم في غزوة بدر، وهم في القلة دون ما هم الآن بكثير، مشيرًا لهم إلى ما أثمره توكلهم من النصر، وحالهم إذ ذاك حال الآيس منه، ولذلك كانوا في غاية الكراهة للّقاء بخلاف ما كانوا عليه في هذه الكرة، حثًا على ملازمة التوكل، منبهًا على أنه لا يزال يريهم مثل ذلك النصر ويذيق الكفار أضعاف ذلك الهوان حتى يحق الحق ويبطل الباطل ويظهر دينه الإسلام على الدين كله فقال- عاطفًا على ما تقديره: فمن توكل عليه نصره وكفاه وإن كان قليلًا فلقد نصركم الله أول النهار في هذه الغزوة حيث صبرتم واتقيتم بطاعتكم للرسول صلى الله عليه وسلم في ملازمة التعب والإقبال على الحرب وغير ذلك بما أمركم به صلى الله عليه وسلم ولم تضركم قلتكم ولا ضعفكم بمن رجع عنكم شيئًا-: {ولقد نصركم الله} بما له من صفات الجلال والجمال {ببدر} المشار إليها أول السورة بقوله تعالى: {قد كان لكم آية في فئتين التقتا} [آل عمران: 13] لما صبرتم واتقيتم.
ولما كانوا في عدد يسير أشار إليه بجمع القلة فقال: {وأنتم أذلة} أي فاذكروا ذلك واجعلوه نصب أعينكم لينفعكم، وكان الإتيان بأمر بدر بعد آية الفشل المختتمة بالحث على التوكل في الغاية من حسن النظم، وهو دليل أيضا على منطوق قوله تعالى: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا} [آل عمران: 120] كما كان أمر أحد دليلًا على منطوقها ومفهومها معًا: دل على منطوقها بنصرهم أول النهار عند صبرهم، وعلى مفهومها بإدالة العدو عليهم عند فشلهم آخره- والله الموفق؛ على أنك إذا أنعمت التأمل في قصة أحد من السير وكتب الأخبار علمت أن الظفر فيها ما كان إلا للنبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي الخبر به في قوله تعالى: {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه} [آل عمران: 52]، فإن الصحابة رضي الله عنهم هزموهم- كما مضى- في أول النهار حتى لم يبق في عسكرهم أحد ولا بقي عند نسائهم حامٍ، فلما خالف الرماة أمره صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على الغنيمة أراد الله تأديبهم وتعريفهم أن نصرته لنبيه صلى الله عليه وسلم غير محتاجة في الحقيقة إليهم حين انهزموا حتى لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم منهم غير نفر يسير ما يبلغون الخمسين، والكفار ثلاثة آلاف وخيلهم مائتان، فاستمر عليه الصلاة والسلام في نحورهم يحاولهم ويصاولهم، يرامونه مرة ويطاعنون أخرى، ويجتمعون عليه كرة ويفترقون عنه أخرى، والله تعالى يمنعه منهم بأيده ويحفظه بقوته حتى تدلت الشمس للغروب، وقتل بيده صلى الله عليه وسلم أُبي بن خلف مبارزة، تصديقًا لما كان أوعده به قبل الهجرة، وخالطوه غير مرة ولم يمكنهم الله منه ولا أقدرهم على أسر أحد من أصحابه، ثم ردهم خائبين بعد أن تراجع إليه من أصحابه في أثناء النهار، ولم يرجع صلى الله عليه وسلم من أحد إلا بعد انصرافهم ودفن من استشهد من أصحابه، وأما هم فاستمروا راجعين ولم يلووا على أحد ممن قتل منهم، وهم اثنان وعشرون رجلًا من سرواتهم وحمال راياتهم، وقال الجلال الخجندي في كتابه فردوس المجاهدين: أنه صح النقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما نصر النبي صلى الله عليه وسلم في موطن من المواطن نصرته في يوم أحد- انتهى.
كفى على ذلك دليلًا ما نقل موسى بن عقبة- وسيرته أصح السير في غزوة الفتح- عن قائد الجيش بأحد أبي سفيان بن حرب أنه قال عندما عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام: يا محمد! قد استنصرت إلهي واستنصرت إلهك، فوالله ما لقيتك من مرة إلا ظهرت علي، فلو كان إلهي محقًا وإلهك مبطلًا لقد ظهرت عليك، وإنما كانت الهزيمة وقتل من قتل لحكم ومصالح لا تخفى على من له رسوخ في الشريعة وثبات قدم في السنن، ويمكن أن تكون هذه القصة مندرجة في حكم النهي في القصة التي قبلها عن طاعة فريق من أهل الكتاب عطفًا على قوله تعالى: {نعمة} في قوله: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم} [آل عمران: 103] لتشابه القصتين في الإصغاء إلى الكفار قولًا أو فعلًا، المقتضي لهدم الدين من أصله، لأن همّ الطائفتين بالفشل إنما كان من أجل رجوع عبد الله بن أبي المنافق حليف أهل الكتاب ومواليهم ومصادقهم ومصافيهم، ويؤيد ذلك نهيه تعالى في أثناء هذه عن مثل ذلك بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين} [آل عمران: 149]، ويكون إسناد الفعل في {غدوت}، وأمثاله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد الإسناد إلى الجمع، لأنه الرئيس فخطابه خطابهم، ولشرف هذا الفعل، فكان الأليق إفراده به صلى الله عليه وسلم، وأما الفشل ونحوه فأسند إليهم وقصر- كما هو الواقع- عليهم.
ولما امتن الله سبحانه عليهم بالنصرة في تلك الكرة سبب عن ذلك أمرهم بالتقوى إشارة إلى أنها السبب لدوام النعمة فقال: {فاتقوا الله} أي في جمع أوامره ونواهيه بأن التقوى التنزه عن المعاصي، والشكر فعل ينبئ عن تعظيم المنعم، وشكر الله صرف جميع ما أنعم به في طاعاته فحينئذ التقوى من الشكر فإن أريد العموم انحل الكلام إلى: اشكروا لعلكم تشكرون، ولا يتحرر الجواب إلا بعد معرفة حقيقة التقوى لغة؛ قال الإمام عبد الحق في كتابه الواعي: الواقية ما وقاك الشر، وكل شيء وقيت به شيئًا فهو وقاء له ووقاية، وقوله سبحانه وتعالى: {لعلكم تشكرون} قال ابن عرفة- أي لعلكم أن تجعلوا بقبول ما أمركم به وقاية بينكم وبين النار- انتهى.
فاتضح أن حقيقة {واتقوا}: اجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية، وأن سبب اتخاذ الوقاية الخوف من ضاره فالظاهر- والله أعلم- أن اتقوا بمعنى: خافوا- مجازًا مرسلًا من إطلاق اسم المسبب على السبب، فالمعنى: خافوا الله لتكونوا على رجاء من أن يحملكم خوفه على طاعته على سبيل التجديد والاستمرار، ولئن سلمنا أن التقوى من الشكر فالمعنى: اشكروا هذا الشكر الخاص ليحملكم على جميع الشكر، وغايته أنه نبه على أن هذا الفرد من الشكر هو أصل الباب الذي يثمر باقيه، وهوالمراد بقول ابن هشام في السيرة: إن المعنى: فاتقوني، فإنه شكر نعمتي، ويجوز أن يكون: لعلكم تزدادون نعمًا فتشكرون عليها- إقامة للمسبب مقام السبب- والله أعلم. اهـ.